فصل: مطلب: أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: أدل آية على فرض الزكاة ومعنى الحكمة والحكم الشرعي في الزكاة والنذر:

هذا وبعد أن حذر اللّه جل شأنه المنفقين مما لا ينبغي فعله ليتنزهوا عنه بين ما ينبغي مراعاته في المنفق ليكون الإحسان متناسبا مع شرف الغاية التي أنفق المال من أجلها فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ} من تجارة وصناعة أو جرايه وزراعة أي أنفقوا من أطيب ما تحرزون من ذلك وأحسنه وأكمله: {وَ} أنفقوا أيضا: {مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} من أنواع الحبوب والثمار والفواكه والخضار التي تدخر: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} تقصدون الرديء: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} على الفقراء وغيرهم: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي ذلك الخبيث لو فرض إعطاؤه لكم من قبل الغير: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} بأن تتسامحوا بأخذه وقت الحاجة فأولى لكم أن لا تأخذوه بغيرها لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يراه فيأخذه حياء أو غصبا أو عند اليأس من أخذ غيره إذا تركه فيأخذه مكرها عن غير رضا وطيب قلب: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيّ} عن صدقاتكم وقادر على رزق الفقراء من فضله دونكم بل واغنائهم عنكم ولكن إظهار فضلكم على الغير وتفاضلكم بينكم وبيان أثر نعمه عليكم.
{حَمِيد (267)} لما تتصدقون به وأنه يظهر حمدكم على لسان عباده فيثنون عليكم، ثم حذرهم خوف فقدان ذات اليد بسبب التصدق، فقال عز قوله: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} يخوفكم به كي لا تتصدقوا ليحول دون ما أعده اللّه لكم من الثواب حسدا وليظهر على ألسنة الناس ذمكم: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ} هذه الكلمة في جميع القرآن بمعنى ما يستقبح فعله ويفحش كالزنى واللواطة إلا هنا فإنها بمعنى البخل الذي هو منع الزكاة لأن هذه الآية من أوضح الآيات الدالة على فرض الزكاة على النقود والحبوب وغيرها لعموم لفظها وشموله، والعرب تسمي البخيل فاحشا قال طرفة بن العبد:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد

{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} خلفا لما تتصدقون به مع العفو عن ذنوبكم: {وَاللَّهُ واسِع} العطاء لا تنفذ خزائنه يعطي من يشاء بغير حساب وهو: {عَلِيم (268)} بمن يتصدق لوجهه ممن يتصدق لغيره.
تنبه هذه الآية إلى أن ما يحصل في قلب المنفق من خوف الفقر هو من الشيطان فينبغي أن لا يلتفت إليه لأنه من جملة مكايده، وأن ما يقع في قلبه من رجاء توسعة الرزق بسبب النفقة هو من اللّه فليثق به فإنه لابد أن يزيده من فضله، وتشير إلى أن الشيطان يغري البشر على البخل لئلا ينفق واللّه جل جلاله يغريكم على الكرم مع وعد الخلف، فعلى العاقل أن يكون حكيما فيميل إلى ما به النفع الدائم لأن اللّه تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ} من عباده ممن هو أهل لأن يتبصر بها لأنها لا تكون بالكسب ولا بالجهد ولا بالتعليم بل هي من اللّه الذي يبصر عبده بطرق الخير ويهديه لسلوكها، ويعرفه طرق الشر ويصرفه عنها، وهذا هو معنى الحكمة وهي أعظم ما يؤتى العبد بعد الإيمان: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} الحقيقة التي هي النبوة: {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} لأنها ملاك خير الدنيا والآخرة: {وَما يَذَّكَّرُ} بمواعظ اللّه وعبره وأمثاله: {إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (269)} لأنهم هم المنتفعون بها العالمون بما ينتج عنها.
قالوا إن الحكمة بمطلق معناها لا التي بمعنى النبوة بنيت على ثلاث: أيدي الصين وأدمغة اليونان وألسنة العرب.
واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن من عرف حبائل الشيطان ولم يركن إليها وأيقن بوعد اللّه فهو من أهل الحكمة الجامعة كل خير المتيقن في قلوبهم صدق كل ما سمعوه عن اللّه ورسوله، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْب} الآية: 38 من سورة ق، لأن القلب ملك الجوارح إذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت.
واعلم أن مغزى هذه الآية وما قبلها جعل ما يتصدق به الإنسان لوجه اللّه وأن يكون خير ما له إذ لا يليق بالمحسن أن يعطي ما ينكف عن أخذه وتعافه نفسه، وتحذير الأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث الفقر لأنه من وساوس الشيطان وخداعه وإن يأخذ بقول من يقول إن النفقة تورث توسع الرزق وتزيد في العمر وأن الكرم من صفات اللّه التي يجب على الغني الاتصاف بها، والبخل من صفات الشيطان الذي يجب الاجتناب عنه، وترمي إلى أن الحكمة هي من مواهب اللّه تعالى ولا طريق لها إلا الإلهام ومن يرد اللّه به خيرا يفقهه في معانيها وعواقبها ومراميها لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
وقالوا القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى الغذاء.
وقال بعض الحكماء ليهنه طعام من أكله ما حله وعاد على ذوي الحاجات من فضله.
وقال آخر احذر مذلة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع.
وقال ما أكلته وأنت مشتهيه فقد أكلته وما أكلت وأنت لا تشتهيه فقد أكلك وقال قصير ما الحيلة فيما أعي إلا الكفّ عنه ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه وقال الإسكندر لا توجد لذة الملك إلا بإسعاف الراغبين واغاثة الملهوفين ومكا المحسنين، وقال البغي ذميم العقبى، وهدم البيوت القديمة غير محمود، والحرب مأمون العاقبة، ودماء الملوك لا يجوز إراقتها، وسلطان العقل على باطن العاقل أشد من سلطان السيف على ظاهر الأحمق، والسعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه، والملوك إذا دبرت ملكها بمال رعيتها كانت بمنزلة من يعمر سطح بيته بما ينفقه من أساسه وقال رجل لكسرى ثلاث كلمات بألف دينار وهي: ليس في الناس كلهم خير ولابد منهم، فالبسهم على قدر ذلك.
وقال اردشير الدين أساس، والملك حارس وما لم يكن له أساس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع، وقال لا شيء أضر على الملك من معاشرة الوضيع ومداناة السفيه، وقال كما تصلح النفس بمعاشرة الشريف تفسد بمخالطة السخيف، وكتب له رجل ينصحه بأن قوما سبّوك، فقال إن كان سبهم بألسنة شتى فقد جمعت ما قالوه في ورقتك.
فجرحك أعجب ولسانك أكذب.
ثم ذكر جل شأنه حكما آخر شاملا لكل أنواع النفقات فقال: {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} خالصة للّه أو مشوبة بشيء مما ذكر: {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} مطلق للخير والشر فاوجبتموه على أنفسكم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} ويجازيكم عليه بحسب نيتكم، فإما أن يخلف عليكم ما هو خير منه في الدنيا ويثيبكم عليه في الآخرة، وإما أن يكافيكم عليه بالدنيا بإشاعته على ألسن الناس، ويؤزركم عليه في الآخرة لأنكم لم تريدوا بها وجهه فتكونوا ظالمي أنفسكم: {وَما لِلظَّالِمِينَ} المانعين رفدهم ولم يوفوا بنذورهم في الدنيا: {مِنْ أَنْصارٍ (270)} يدفعون عنهم عذاب اللّه يوم الجزاء في الآخرة.
وقد قرر اللّه تعالى الوعيد على البشر في هذه الآية لبيان فظاعة حال البخيل الذي لم يؤد حق اللّه من ماله إلى عياله، وقد أيأسه من المعين والخليل عند ما يكون أحوج إليهما، واعلم أن الأمر في هذه الآية للوجوب لأنها أدلّ وأعم وأشمل آية على فرض الزكاة، فيدخل فيها الذهب والفضة وأرباح النجارات وحاصلات الزروع والأشجار وغيرها من كل ما يقتات به ويدّخر وما يكتسب من هذا وغيره، أما الذي لا يدّخر كالبطيخ بأنواعه والخيار بأصنافه وبعض الفواكه والخضار فلا زكاة فيها، وتفصيل ما يجب زكاته وما لا، ونصاب كل منها في المال والعروض والحيوان والحبوب مفصل في كتب الفقه.
قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما اللّه إن المراد بهذه النفقة التي أمرنا اللّه باختيارها من الطيبات هي الزّكاة المفروضة، لأن الأمر فيها للوجوب.
وقال مالك إن المراد بها مطلق الصدقة، والأول جرى عليه أكثر العلماء والمفسرين، إذ لا نهي في الآية عن التصدق بالرديء، وهو مخصوص بصدقة الفرض.
قال عبيدة السلماني سألت عليا كرم اللّه وجهه عن هذه الآية فقال نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الرديء، فقال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} إلخ، وقال بعض المفسرين نزلت في أناس من الأنصار كانوا يتصدقون بأردأ تمرهم على أهل الصفة فنهاهم اللّه عن ذلك، وأعلمهم بأنهم لو كانوا هم الآخذين لم يأخذوه إلا عن إغماض وحياء فكيف يعطونه؟ وعليه فإن التصدق بالحرام لا يجوز لأنه أخبث من الرديء.
روى الأثرم في سننه عن عطاء بن السائب قال: أراد عبد اللّه ابن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طليحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى ليس لك ذلك إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول ليس في ذلك صدقة، وهذا الحديث من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله وهو دليل من قال إن هذه الآية نزلت في الزكاة المفروضة، ومن قال إنها في صدقة التطوع استدل بما أخرج في الصحيحين عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة.
وهذا ليس بشيء وإن كان الحديث صحيحا لأنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت في صدقة التطوع، وتفيد الآية الأخيرة هذه وهي العاشرة من آيات الصدقة المشار إليها في الآية 261 إلى أن اللّه تعالى يعلم برّكم ونفقاتكم ونذوركم وأن من لم يوف بها فهو ظالم لنفسه التي أمر بتطهيرها وتزكيتها، وفيها وعيد وتحذير وتهديد لمن لم يوف بنذره لأنه هو الذي أوجبه على نفسه فصار من قبيل العهد، وقد أمر اللّه تعالى بالوفاء به كما مر في الآية 152 من سورة الأنعام، وما أشير إليه فيها من المواضع.
والحكم الشرعي: وجوب الزكاة على من ملك النصاب فاضلا عن حوائجه كلها المبين تفصيلها في كتب الفقه المشحونة بكل ما يخطر على بالك بشرط حول الحول على النقدين وأموال التجارة وكل ما يعد عروضا، أما الزروع والحبوب فبنمو اسمها وعلى ما يفضل من نصابها.
والحكم الشرعي في النذر إذا كان خيرا وجب الوفاء به، وإن كان شرا كفر عنه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه.
وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية اللّه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا فأطاقه فليف به.
وأخرج النسائي عن عمران بن حصين: لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم.
وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير، وإنما يتخرج به من البخيل.
وسبب النهي كون الناذر يلزم بنذره فيأتي به تكلفا من غير نشاط على سبيل المعاوضة.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن اللّه قدره له، ولكن النذر يوافق القدر.
فخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج.

.مطلب: الهداية من اللّه، وفضل إخفاء وإعلان الصدقة، والربا وما يتعلق به والحكم الشرعي فيه:

قال تعالى مبينا الحكم فيما تقدم من النفقات: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ} فتعطوها جهارا علنا: {فَنِعِمَّا هِيَ} الخصلة الحميدة فيها: {وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ} سرا عن الناس: {فَهُوَ خَيْر لَكُمْ} من الجهر لمظنة الإخلاص ودفع خواطر الرياء والسمعة، لما فيها من الستر على الفقير وخاصة المتعفّف، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الإخفاء أفضل وإن كان الأمران جائزان إذ قد بوجد من هو محتاج للنفقة ولا يقبلها علنا خوف الفضيحة أو حياء من أن يطلع الغير على حاجته لها، فإعطاؤها له سرا فيه جبر لخاطره وسد لخلته وصيانة لماء وجهه، وفيها كرامة للمتصدق أيضا، وفضيلة له وبعدا عن شوائب المنّ والأذى، لأن من يتصف بهاتين المثلبتين لا يتصدق سرا.
واعلم أن نفقة السر على الوجه المار ذكره فيها فضيلة أخرى بينها تعالى بقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ} بمقابل إخفائكم صدقاتكم بقصد أخذها عن طيب نفس كإعطائها عن طيب نفس وأجرها عند اللّه أكبر من الصدقة العلنية: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِير (271)} لا يخفى عليه تصدقكم ونيتكم فيه.
وتؤذن هذه الآية بأن النفقات يثاب عليها صاحبها أخفاها أم أعلنها إذا صلحت النية إلا أن الإسرار بها أحسن، وتشير إلى أن المرء في أعماله وأقوله وأفعاله مراقب من قبل ربه فليحرص على أن تكون حالاته كلها خالصة له، وإلى أن النية متى خلصت في العبادة فإظهارها وإخفاؤها سواء لا يحط من قيمتها ولا ينقص من ثوابها.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ} بأن تلزم أن تجعلهم كلهم مخلصين في نفقاتهم غير ماتين بها ولا مؤذين آخذيها ولا كونهم مراثين بها ولا أن لا ينقفوا من الرديء، وإنما عليك يا سيد الرسل تبليغهم ما نوحيه إليك وإرشادهم للعمل به فقط: {وَلكِنَّ اللَّهَ} الذي أرسلك وجعلك هاديا بإرشادك إياهم: {يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} ويوفقه لما يشاء من الطرق المخلوق إليها: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} مطلق مال قل أو كثر حسنا أو ردينا خالصا أو مشوبا سرا أو علنا: {فَلِأَنْفُسِكُمْ} ثوابه: {وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ} أي لا تنفقوا إلا خالصا لوجه ربكم، وجاء النفي هنا بمعنى النهي مبالغة فيه، لأن ظاهر هذه الآية خبر ومعناها نهي: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أجره في الآخرة وافيا ويخلفه عليكم في الدنيا مضاعفا.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا.
ورويا عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: أنفق ينفق عليك.
ورويا عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنفقي ولا تحصي فيحصي اللّه عليك ولا توعي تشحّي فيوعي اللّه عليك.
وفي معناه ما قاله الشيخ حسير رمضان الخالدي مدرس الفرات في بعض قصائده:
وكالدرهم الدينار صرفا وإن ** تكن دراهم نوعي أو دنانير تمنع

فقد أشار فيه إلى المنع الشرعي والمنع النحوي أيضا.
وأخرج الترمذي عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحق بورك له فيه، وربّ متخوض الذي يأخذ المال من غير حله أو من غير وجهه فيما شاءت له نفسه من مال اللّه ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار يحث هذا الحديث على طلب الحلال من الكسب ويحذر على الابتعاد عن الحرام روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن حلال أم من حرام.
وروى البخاري أيضا عن المقداد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي اللّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده.
هذا وإن اللّه تعالى يوف لكم أجور صدقاتكم: {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)} فلا تنقصون شيئا من ثوابها الذي وعدكم إياه بل يجزيكم جزاء وافيا ويضاعفه لكم إن شاء على حسب نياتكم فيها، والقصد من هذا تهيج المتصدقين إلى التصدق والعمل بأحكام هذه الآيات ليتم غرض المتصدق عليهم الموجب لفوز المتصدقين.
قالوا إن أناسا كانوا يتصدقون على قراباتهم من أهل الكتاب ثم أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم نهى عن التصدق على المشركين ليحملهم على الإسلام رأفة بهم، فصار بعضهم يتأثم من ذلك، فأنزل اللّه هذه الآية.
أي ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في ذلك المنع، لأن الهداية من خصائص ربك وأجرها لمنفقها.
وقد ذكر اللّه أنه لا يقبل إلا الخالص منها، فدعهم يا سيد الرسل وما يفعلون، فإنهم إذا تصدقوا على المسلمين لوجه اللّه لا لإعانتهم على الكفر فهو يثيبهم عليها، وإلا فيعاقبهم، لأن الجزاء من جنس العمل، والأعمال بالنيات، قال تعالى: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} الآية: 60: من سورة الرحمن الآتية، وقال جل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} الآية: 122 من سورة النساء الآتية، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} آخر سورة الزلزلة الآتية أيضا، فعلى قدر العمل وبحسب النية يكون الثواب والعقاب.
وليعلم أن القصد من النفقة صلة الرحم وسد خلّة المحتاج وليست للأغنياء ولا لغير المحتاجين الذين تودون إعطاءهم إياها وإنما هي خاصة: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي حبسوا أنفسهم للجهاد وبقصد إعلاء كلمة اللّه ثم الفقراء والمساكين الأحوج فالأحوج وبقية الأصناف الثمانية الآتي ذكرهم في الآية 60 من سورة التوبة الآتية، وإنما خص هؤلاء لأنهم: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} لأنهم غير مطلقين ليسلكوا سبل العمل والتجارة والزراعة والصيد وغيرها من طرق الرزق لتأمين معاشهم بسبب عجزهم مادة ومعنى، ومن هذا الصنف الذين يحبسون أنفسهم على عبادة اللّه ليل نهار لا يخرجون للأسواق والطرقات، والذين هم بعدم تصديهم للسؤال من هذا القبيل أيضا إذ: {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ} أمرهم وشأنهم: {أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} عن المسألة وعدم إظهار الذلة والمسكنة وظهورهم بالتجمل والعفة: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ} السيما والسمة والسميا بمعنى العلامة وهي ما يظهر على وجه الإنسان من الاصفرار بسبب الجوع، وما يرى من ثيابهم الخلقة، وتلبسهم بالخضوع والخشوع للّه، كل هذا مما ينم عن شدة حاجتهم مما يغني اللبيب عن احتياجهم لسؤاله، بل يتفرس فيهم ويعطيهم كفايتهم، فهم أكثر أجرا من غيرهم: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا} إلحاحا فيكررون الطلب المرة بعد المرة، ولا يبارحون المحل حتى يأخذوا منه، ومنهم من يغلظ القول عند عدم الإعطاء، كسؤال زماننا لهذا عليكم أن تفعلوا الخير ما استطعتم معهم: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم (273)} تفيد هذه الآية عدم الميل إلى التصدق إلى المؤمن فقط، إذ يجوز أن يعطيها لذوي الحاجة من غير المؤمنين، لأن الخير للخيّر أن يتحرى بصدقته الأحوج إلا عند التساوي يرجح المؤمن، كما أنه يرجح الطائع على العاصي والقريب على البعيد.
لما نزلت هذه الآية بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة لأهل الصفة لأنها نزلت فيهم، وكانوا أربعمائة رجل لا مال لهم ولا مأوى ولا قرابة يأوون إليهم، وإنما ركنوا إلى المسجد يتلون القرآن ويخرجون مع كل سر للجهاد في سبيل اللّه، لذلك حث اللّه عباده للإنفاق عليهم ومواساتهم، لأنهم كانوا مع فقرهم لا يظهرون للناس بصفة المعدمين مع ظهور علامة الفقر عليهم، وهذا من غنى القلب.
واعلم أن هذه الآية توعز بحرمة السؤال في غير الضرورة له قال صلّى اللّه عليه وسلم المسألة لا تحل إلا لثلاث: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لأنه دم موجع.
وقد بينا آنفا أن الصدقة تعطى للمسلم وغيره من ذوي الحاجة ونعني بها صدقة التطوع، أما صدقة الزكاة المفروضة فقد أجمع العلماء على صرفها للمسلمين من الأصناف الثمانية خاصة لقوله صلّى اللّه عليه وسلم أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياء وأردها على فقرائكم، لأن تخصيص الأخذ في هذا الحديث من الأغنياء يخصصه الزكاة المفروضة، لأن غيرها تكون من الغني وغيره من كل من عنده فضل حوائجه ولو لم تجب عليه الزكاة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال:
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غنى النفس.
ورويا الحسن: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غناء يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم لمسألته الناس.
فأمثال هؤلاء يجب أن يتصدق عليهم لأنهم مع عوزهم لا يطلبون من الناس، لا سؤال زماننا الذين لو لا قول الله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: لو صدق السائل ما أفلح من رده.
لما أعطينا أحدا منهم لقمة، لأنا بعد اطلاعنا على أحوال بعضهم وتيقننا من غناهم ووجوب الزكاة عليهم صرنا نشك في كل سائل، ولكن قال صلّى اللّه عليه وسلم اعطوا السائل ولو جاء على فرس، وما علينا إلا الامتثال، وإلا لأفتينا بعدم جواز التصدق على من لم يتحقق فقره، لأن فيه إعانتهم على الكسل والمعصية، لأن من عنده وجبة يوم يحرم عليه السؤال، فكيف بمن عنده قوت سنة، ومن يسأل وببيع ما يحصله بالسؤال، ومن يتجر ويرابي، فقد اختلف علينا الأمر ولم نقدر نفرق بين المحتاج وغيره، ولم نتبين لنا من اتخذ السؤال حرفة ممن هو محتاج إليه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
سمع عمر رضي اللّه عنه سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه عش الرجل فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال ألم أقل لك عش الرجل؟ قال قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، قال له لست سائلا ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة.
ولهذا صار بشك في أحوال السؤال وصاروا يعملون لهم محالا للأكل والشرب والنوم قطعا لمادة السؤال.
هذا ومن أعمال الوليد الممدوحة أنه فرض للمجذومين نفقة خاصة كي لا يسألوا، وعين لكل أعمى قائدا، ولكل مقعد خادما، ونفقة لحفظة القرآن، وبنى دورا للضيافة.
روى البخاري ومسلم عن ابن الزبير قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سأل الناس وله ما يغنيه عن المسألة جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش أو خموش أو كدوح، قيل يا رسول اللّه ما يغنيه؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب- أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي-.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: من سأل الناس تكثرا فإنما سأل جمرا فليستقل أو ليستكثر.
وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سأل وله قيمة اوقية أربعون درهما فقد ألحف.
أخرجه أبو داود، وأخرج النسائي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من سأل الناس وله أربعون درهما فهو ملحف، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} على ما فاتهم من الدنيا واللّه يخلف لهم ما أنفقوه فلا يخشون الفقر في الدنيا، وثواب نفقاتهم يقيهم أهوال يوم القيامة.
هذه الآية خاتمة الآيات الأربع عشرة المشار إليها قبل، بأنها كلها في أنواع الصدقات وحال أهلها، وهذه الأخيرة نزلت في علي كرم اللّه وجهه، إذ بعث بوسق لأهل الصفة ليلا ومثله نهارا، وكان ذات يوم يملك أربعة دنانير فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبالثالث سرا وبالرابع علنا، وهي عامة جار حكمها في كل متصدق بمقتضاها، لأن أكثر آي القرآن العظيم عام، وهذه الآية تؤيد ما ذكر في الآية [271] من أن نفقة السر أفضل من العلانية، لأن اللّه قدم فيها نفقة الليل على نفقة النهار، ونفقة السرّ على العلانية ضمنا، وتشير هذه الآية صراحة إلى الأفضلية.
هذا وقد أجمع العلماء على أن إظهار صدقة الفرض أحسن، للاقتداء بفاعليها، وإخفاء صدقة التطوع أجمل لما فيها من جبر خاطر آخذها بحالة لا ذل فيها ولا انكسار قلب، بل بطيب نفس وقلب منشرح.
أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه، إمام عادل وشاب نشأ في طاعة اللّه ورجل قلبه معلق بالمجسد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تابا في اللّه تعالى اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه من خشية اللّه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف اللّه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية [62] من سورة براءة إن شاء اللّه، وقدمنا ما يتعلق بها في الآيتين [215، 219] والآية [119] قبلهما أيضا واعلم أن هذه الآية الأخيرة من آيات الصدقة تدل على أن أفضل أنواع الخير ما كان متتابعا متواصلا، وأن الأحسن أن لا يخصص الرجل صدقته بأناس دون آخرين، ولا بوقت دون وقت، لأن صدقة التطوع لا وقت لها، أما صدقة الفرض فوقتها وقت وجوبها وهو حولان الحول وصدور المواسم، ولا يتحتم على من تجب عليه أن ينفقها حالا بل يتريث ليجد من ينفقها عليه ويختار الأحوج والأدين والأقرب والأتقى، لما جاء في الخبر اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطقكم.
ولما رغب اللّه في الصدقة فرضها ونفلها التي هي بذل المال بلا عوض رجاء منّه عليهم طفق ينفر عن الربا وهو أخذ المال بلا عوض بقوله جل قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} ويعاملون الناس فيه ويأكلون فضله، لأن المال يحرز ويصرف ولا يؤكل وإنما ذكر الأكل دون اللباس والسكن الذين هما من المال أيضا لأنه معظم الأمر المقصود في المال، ولأنه لا يستغنى عنه استغناء اللباس والسكن، فهؤلاء المرابون: {لا يَقُومُونَ} من قبورهم يوم يقوم الناس لرب العالمين عند الصيحة الثانية ليذهبوا إلى المحشر فيحاسبوا ويثابوا أو يعاقبوا: {إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ} أي يصرعه ويخبطه بالأرض، لأن الخبط ضرب على غير استواء ومنه قولهم خبط عشواء مثلا للرجل الذي يتصرف في الأمور على غير هدى وروية وتدبر بسبب ما أصابه: {مِنَ الْمَسِّ} الجنون يقال مس الرجل إذا كان به جنون، أي يبعثه مجنونا مخبلا مختلا، وهذه علامتهم في الموقف العظيم فيفضحون بين الناس كغيرهم من الزناة وشربة الخمر والمقامرين لأن ذلك اليوم يوم الفضيحة، أجارنا اللّه من ذلك، وقد مثلوا لحضرة الرسول ليلة الإسراء بكبر بطونهم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، لأن الربا ربا في قلوبهم والعياذ باللّه فلا يستطيعون الإسراع يوم يحشر الناس سراعا كما بيناه أول سورة الإسراء: {ذلِكَ} الذي يحل بهم يوم القيامة.
{بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} أي أنه حلال، لأنه مبادلة مال بمال كالبيع وقد قاسوه بمقياس إبليس الذي ذكرناه في الآية [12] من سورة الأعراف وهم من أتباعه لأنهم يسببون لهلاك الناس بإحراز أموالهم دون مقابل، وهو يسبب إهلاكهم بما يسول لهم: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وليس الحلال كالحرام، وقد كذبوا بقياسهم هذا لأن الربا فيه زيادة نفس المال بمقابل تأخير الأجل فقط، والبيع ليس كذلك، لأن البدل فيه من غير جنس المبدل منه، ولأن الريح في قيمة المال البيع لا بنفس المال ولا من جنسه، فإذا باع ثوبا قيمته عشرة بأحد عشر، فقد جعل ذات الثوب بمقابل الأحد عشر، وجعل التراضي عليه، فلم تكن هذه الزيادة بغير عوض، وفي الربا يكون الزائد بغير عوض، لأنه يعطيه عشره ويأخذ منه أحد عشر مثلا، فتكون هذه الزيادة بمقابل الإمهال فقط، والإمهال لا يكون عوضا مقابلا لهذه الزيادة لأنه ليس مالا ولا شيئا من جنس المال المعطى.
وأعلم أن ما حرم بالنقدين حرم بغير هما من مكيل وموزون من الأشياء الستة المبينة بالأحاديث الآتية، لأن العبرة بالفضل، فكل ما كان متفاضلا لا يجوز كما سنيينه بعد: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَة مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى} وامتنع عما نهي عنه: {فَلَهُ ما سَلَفَ} قبل النهي فلا يؤاخذ عليه البتة: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فإنه يعفو عنه بامتثاله وامتناعه عن تعاطيه، فلا يطالبه بما تقدم عن زمن النهي: {وَمَنْ عادَ} إلى فعل ما نهي عنه واستحل أخذ الزيادة عن رأس ماله وأمر على تعاطيه: {فَأُولئِكَ} الذين تمادوا على الربا هم: {أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [275] لا يخرجون منها أبدا وهكذا كل مستحل ما حرم اللّه عليه، لأنه يكون كافرا بالاستحلال، فيستحق الخلود كالكافرين باللّه المشركين به.
واعلم أن آية الربا هذه من آخر آيات القرآن نزولا إذ لم ينزل بعدها إلا آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [4: من سورة المائدة] الآتية، وآية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [284] الآتية.
روى مسلم عن جابر قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء».
وسبب تحريمه منع الناس من الاتجار بأموالهم بأنفسهم وبالواسطة، وانقطاع المعروف بين الناس، لأن المرائي لا تطيب نفسه أن يقرض أخاه دون فائدة تعود عليه، ويؤدي إلى حرمان الناس من أجر القرض الذي هو أفضل من الصدقة، ويسبب زيادة المال بلا تعب أو مشقة، ويأمن من خوف التلف والخطر في الأجل والسفر، فضلا عن هذه الأسباب فإن ما حرمه اللّه نصا وجب الانتهاء عنه اتباعا لأمر اللّه وامتثالا له توا دون الوقوف على سببه، لأن اللّه تعالى مالك الخلق، والمالك المطلق له أن يتعبد خلقه بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، وليس للمخلوق إلا الانقياد لأمره والخضوع لحضرته، وسواء كان له سبب أم لا، وسواء علمت الحكمة منه أو لم تعلم، لأن أفعال اللّه لا تعلل، ولأن العلة لا تدور مع المعلول، لذلك فإن الحكم الشرعي التحريم البات، وعلى الإمام حبس المصر عليه حتى يتوب عن تعاطيه، وإذا لم ينته لقوته وجب على المسلمين محاربته كالبغاة، فإذا قدروا عليه وأصر على تعاطيه ضربوا عنقه بسبب استحلاله ما حرم اللّه، وهو في أشياء مخصوصة بينها رسول صلّى اللّه عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبرّ بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء».
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى». وروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد»، فقد نص عليه السلام على هذه الأصناف الستة فقط، وعليه فإن ما عداها لا ربا فيه، فلو باع ثوبا بثوبين أو كتابا بكتابين، أو إناء بإناءين، فلا ربا ولا حرمة فيه.
والقرض الذي فيه زيادة يعد من الربا المحرم لأن كل قرض جرّ نفعا فهو ربا، وكذلك لو أقرضه شيئا واشترط عليه أن يردّ له أحسن منه فهو ربا لوجود العلة وهي الفضل بلا مقابل، يدل على هذا ما روي عن مالك قال: بلغني أن رجلا أتى ابن عمر فقال إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته، فقال عبد اللّه فذلك الربا- أخرجه مالك في الموطأ-.
فإن لم يشترط جاز، لما روي عن مجاهد أن ابن عمر استلف دراهم فقضى صاحبها خيرا منها، فأبى أن يأخذها لأنها خير من دراهمه، فقال ابن عمر قد علمت، ولكن نفي بذلك طيبة- أخرجه مالك في موطأه-.
فمن استقرض مثلا ليرة حميدية ذهبا فأدى ليرة رشادية، جاز لأن وزنهما واحد وقيمتهما الأصلية واحدة، ولكن يشترط عدم الشرط من المقرض وطيب النفس من المستقرض.
والربا نوعان:
ربا فضل أي زيادة وربا نسيئة أي تأخير بالأجل، فإذا باع جنسا من الأشياء الستة بجنسه نفسه اشترط فيه التماثل والمساواة إن كان موزونا أو مكيلا، واشترط التقايض بالمجلس، وإذا باع جنسا بآخر كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير جاز فيه التفاضل، واشترط أن يكون يدا بيد بالمجلس فإذا زاد في الأول وأخر في الثاني وقع الربا كما هو صريح الأحاديث المارة والآتية.
قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} يذهب بركة مال المرابي ويعرض صاحبه للخسران والهلاك، وإن طال به الزمان فقل أن ينتقل لأحفاده، وكثر أن يكون الحق في زمنه وأولاده: {وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ} ينميها ويبارك في المتصدق منه ويضاعف الأجر لصاحبه إذا كان حلالا، قال تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [92: من آل عمران] الآتية، والتصدق بالحرام فضلا عن أنه لا ثواب فيه فقيل إن من يتصدق فيه طلبا للأجر يكفر لما فيه من معنى الاستحلال.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل اللّه إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيده وإن كانت تمرة فتربوا في كنف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله».
ثم ألمع جل شأنه إلى أن أكل الربا بعد هذا النهي لا يكون إلا من الانهماك في الإثم المؤدي إلى الكفر بقوله جل قوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} مصر على كفره مستحل لأكل الربا وغيره من المحرمات متماديا في الإثم مستمرا عليه، وتشعر هذه الآية بأن من هذا شأنه يكون كثير الكفر عظيم الإثم يكرهه اللّه تعالى ومن كان كذلك فالنار أولى به.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} تقوية لإيمانهم وإشعارا بإخلاصهم: {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} المفروضة عليهم بشروطها وأركانها، وهذا هو معنى الإقامة: {وَآتَوُا الزَّكاةَ} المفروضة عن طيب نفس لأهلها مع الكلام الطيب والإعطاء بالمعروف: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} واف كامل مضاعف: {وَلا خَوْف عَلَيْهِمْ} مما يخافه غيرهم من الذين لم يقوموا بذلك كله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} على ما فاتهم من حطام الدنيا وزخارفها، لأن اللّه تعالى عوضهم خيرا منها في الآخرة.
وبعد ما أباح لهم ما أكلوه من الربا قبل نزول هذه الاية بين لهم حكم ما عقدوه منه قبل النهي ولم يستوفوه بعد، فقال عز قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا} على الذين أخذوا منكم مالا وهو ما فضل عن رءوس أموالكم فقط: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} قولا وفعلا قلبا وقالبا فخذوا رءوس أموالكم واتركوا بقايا الربا حتى تقوا أنفسكم من عقابه، واعلم أن ذروا لا ماضي له، وكذلك ما تصرف منه مثل: تذر ويذر وتذررون إلخ وهما مكرران كثيرا في القرآن.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} ما أمرتم به ولم تتركوا ما نهيتم عنه: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لأن إصراركم على ما حرم عليكم وعدم انتهاءكم عما نهيتم عنه إعلام بطلب المبارزة والمحاربة مع اللّه ورسوله وهو مما لا قبل لكم به، وهذا كناية عن التشديد في الزجر والكف عن الربا في الدنيا، وعدم أخذ الفضل المعقود عليه قبل النهي والمبالغة في الوعد والتهديد في الآخرة.
قال أهل المعاني حرب اللّه النار وحرب رسوله السيف.
وقد بينا آنفا وجوب محاربة المصرّ عليه على الإمام: {فَإِنْ تُبْتُمْ} ورجعتم فإن اللّه تعالى يقبل إنابتكم ويعفو عما سلف منكم، وإذا فعلتم هذا وطابت نفوسكم بترك الفضل مما عقدتموه قبل النهي ولم تستوفوه، أما بعده فالعقد باطل من أساسه حرام ملاحقته لا يجوز تقاضيه، وفي كلا الحالتين: {فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ} الغريم بأخذ الزيادة منه عنها: {وَلا تُظْلَمُونَ (279)} بنقص شيء من رأس المال، بل تأخذونه كما أعطيتموه كاملا. وهذا البحث بحث واسع في الآية 131 من سورة آل عمران الآتية.
كان العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان يتعاطيان الربا، فقال لهما بعض مدينهما إن أخذتم حقكما كله مني لم يبق لدي ما يكفي عيالي، فخذ النصف وأضعف لكما النصف الثاني إذا أخرتماه، وذلك قبل النهي، ففعلا فلما حلّ الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه هذه الآية، فقالا سمعا وطاعة، وأخذا رأس مالهما وهناك أقوال أخر في أن سبب نزولها في العباس وخالد بن الوليد أو في أربع اخوة من ثقيف كانوا يتعاطون الربا، ولا مانع من تعدد الأسباب، والمعنى واحد وأن كلا منهم قال نتوب إلى اللّه، ولا قوة لنا على محاربة اللّه ورسوله، وصار كل من كان له دين مرابيا به يكلف دائنه بدفع رأسماله فقط قبل حلول الأجل، لأن الدين أصبح قرضا مستحقا، والقرض لا أجل له، إذ يحق للمقرض مطالبة المستقرض متى شاء، فشكا بعضهم الإعسار لأنهم كانوا يستدينون على المواسم ولم ينتهوا لإدائه قبل حلوله، فأنزل اللّه: {وَإِنْ كانَ} المدين فاقد المال: {ذُو عُسْرَةٍ} لا قدرة له على أداء ما عليه: {فَنَظِرَة} عليكم أيها الدائنون: {إِلى مَيْسَرَةٍ} مدينكم بأن تمهلوهم إلى وقت وحالة يتمكنون من الأداء.